هل جبريل اسم للكتاب ؟

 بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ



من الجيد أن يسعى الإنسان إلى البحث الدائم عن حقائق الأشياء وإعادة النظر في كل كبيرة وصغيرة وأن لا يسلم تسليما أعمى بالمعتقدات الموروثة لكن في نفس الوقت لا يجب أن يتحول الأمر إلى سعي دائم إلى مخالفة كل ما وجد عليه آباءه بدون حجة ولا برهان والذي أصبح للأسف القاعدة الطاغية على فكر العديد من الباحثين الذين أصبح مفهوم تدبر القرآن بالنسبة إليهم هو مخالفة الموروث حتى في قراءاته الصحيحة لكتاب الله التي ليست بالندرة التي يتصور البعض...والنتيجة اختراع مفاهيم وعقائد لا تمت بصلة لواقع النصوص قد تصل للشرك العلني بالرحمن وجعل كتاب الله وسيلة لإحياء عقائد أعدائه من مشركي الأقوام البائدة التي اعتقد الناس أنها ولت بدون رجعة كما هو الشأن مع فكرة ربوبية جبريل المزعومة التي سبق التطرق إليها بالتفصيل في المقالات الماضية
وارتباطا بموضوع جبريل الذي ليست هذه هي المرة الأولى التي تم ربطه فيها بمثل القراءات المتكلفة والمفاهيم الغريبة حيث ظهرت قبل سنوات قراءة مماثلة في النهج والتي إن كانت أقل خطورة وضررا فإنها لا تقل غرابة وشذوذا عن واقع نص كتاب الله الذي أصبح هو جبريل نفسه في هذه القراءة العجيبة ! والتي لا تزال للأسف تتناقل بين الباحثين ويتم الترويج والدعاية لها تحت عباءة تدبر القرآن ونبذ جهل كتب التراث 
القراءة التي لو تأملنا في مضمونها فسنلاحظ تشابهها الكبير مع قراءات سلسلة ربنا جبريل واعتمدها على نفس المنطق ونفس القواعد وسقوطها في نفس الأخطاء تقريبا أولها جعل القناعة المسبقة بحتمية خطأ قراءة الموروث بدون دليل حكما على صريح النص القرآني وهو ما يحجب النظر في العديد من الأحيان عن أوضح الواضحات وأن نفس النص الذي زعموا دلالة اسم جبريل فيه على الكتاب هو أول يلغي الفكرة من أساسها
حيث تم التركيز على ظاهر الجزء الأول من الجملة القابل لقراءتين مختلفتين أن يكون جبريل هو منزل الكتاب كما اتفقت جل القراءات منذ أيام السلف
قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ (97) سورة البقرة
قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَ الكِتَابَ عَلَى قَلْبِكَ
أو أن يكون الله تعالى هو منزل جبريل الذي سيصبح في هذه الحالة اسم من أسماء الكتاب كما ذهب أصحاب الطرح
قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ (97) سورة البقرة
قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّ اللهَ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ
الذين تمسكوا بالاحتمال الثاني الذي قاموا بإسقاطه على مختلف النصوص لتعزيز فكرتهم المسبقة دون الالتفات لتتمة الجملة
قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ (97) سورة البقرة
التي سيصير فيها المعنى حسب قراءتهم كالآتي !!!
قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّ اللهَ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ نَفْسِهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ
لأن الهدف من مثل هذه الأبحاث والقراءات هو المخالفة المطلقة للموروث الذي إذا ذكر فيه أن جبريل هو منزل الوحي فوجب نفي الأمر بجعل جبريل هو الوحي نفسه...وإذا قيل أن الرسول قد تلقى الوحي من ملك فيستلزم تكذيب الأمر بالتركيز على ظاهر بعض النصوص
وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8) سورة الأَنعام
الذي تنفي حسب اعتقادهم تنزيل أي ملك على النبي محمد من خلال تأكيده على قضاء الأمر وانتهاء الأجل في حالة تنزيله
واغفال بقية النصوص والسياقات الأكثر تفصيلا في المسألة والتي يتبين من خلالها أن الطلب الحقيقي للكفار كان بتنزيل ملك يرونه بأم أعينهم
لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) سورة الحجر
وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) سورة الإسراء
وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ (22) سورة الفرقان
 ويكون نذير مع النبي محمد
وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) سورة الفرقان
والذي لا ينفي في أي حال من الأحوال تنزيله بشكل خاص على النبي محمد من دون عموم القوم وهو ما تأكيده في تتمة السياق التي تخبر بأنه لو تم تنزيل ملك نذير على القوم كما طالبوا لكان في نفس هيئتهم البشرية
وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9) سورة الأَنعام
بالإضافة لإغفالهم لأسلوب الحذف
وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8) سورة الأَنعام
وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ
الحاضر في مختلف النصوص القرآنية بهدف الاختصار وتكرار ما هو معلوم وبديهي بالنسبة للمخاطبين في النصوص
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا (41) سورة الإسراء
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا
وبالأخص إذا تم ذكره في مواضع أخرى من القرآن
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (89) سورة الإسراء
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54) سورة الكهف
وعندما تعرض عليهم النصوص التي تذكر بوضوح تنزيل الملائكة على الأنبياء 
وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى (69) سورة هود
قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ (81) سورة هود 
يعترضون قائلين أن النصوص لم تذكر طبيعة الرسل المنزلة على الأنبياء
وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) سورة الشورى
بل كتب التراث من اخترعت فكرة أنهم كانوا من الملائكة
وليس نصوص القرآن التي ذكرت بكل وضوح وبصريح العبارة ؟!
الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا (1) سورة فاطر
اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) سورة الحج
إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سورة القدر
وإذا قيل لهم أن جبريل هو اسم الملك الرسول الذي أنزل القرآن احتجوا باقتضاء المغايرة عند العطف في اللغة وباستحالة أن يكون الرسل من الملائكة وأن يكون جبريل من الرسل والملائكة
مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98) سورة البقرة
دون النظر إلى محل العطف من الإعراب في لغة القرآن واستعماله في العديد من المواضع للتمييز بين أفراد نفس الجنس
وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ (84) سورة آل عمران
قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30)  ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ (34) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51) سورة مريم
وبوجود احتمالية حقيقية بأن يكون جبريل رسولا من الملائكة مثلما اعتبر الأنبياء صديقين
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) سورة مريم
وشهداء
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) سورة الأحزاب
وصالحين
أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39) سورة آل عمران
رغم عطف الصفات الأربع على بعضها في مواضع أخرى
فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ (69) سورة النساء
الاحتمالية التي ستصير شبه يقين عند الاطلاع على مثل هذه النصوص
وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (136) سورة النساء
آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ (285) سورة البقرة
الذي يوحي عدم ذكر جبريل وميكال فيهما وعدم إلزام الإيمان بهما كمخلوقين منفصلين عن الملائكة...بشكل شبه مؤكد بانتمائهما إلى ملائكة الرحمن
ليتبين في الأخير صحة جميع قراءات الموروث في هذا الخصوص ليس بالضرورة لصدق وإخلاص السلف في قراءتهم لكتاب الله...بل لشدة بيان النصوص والحقيقية القرآنية بغض النظر عن قائلها وعن القصص والتفاصيل التي تمت إضافتها في كتب التراث والتي تم التركيز على طابعها الخرافي لتمرير الفكرة على حساب الحقيقة القرآنية...الظاهرة التي انتشرت في الآونة الأخيرة بشكل كبير حيث صار لبس عباءة نقد التراث من أنجع الأساليب والوسائل للدعاية للأفكار المبتغاة التي على الرغم من اعتماد عدد منها على نفس القواعد والقراءات تقريبا إلا أنها تسفر على نتائج مختلفة كليا لدرجة تستشعر من خلالها أن لكل باحث قرآنه الخاص قرآن يعتبر فيه جبريل هو الوحي وقرآن يعتبر فيه جبريل هو رب العالمين وما خفي أعظم...والسبب التخلي عن القواعد الضابطة لفهم القرآن واستبدالها بقواعد مبنية على الظن الذي لا يغني من الحق شيئا
ويبقى العلم لله سبحانه وتعالى
إن أخطأت فمن نفسي وإن أصبت فمن العزيز العليم

تعليقات

إرسال تعليق