هل القرآن صالح لكل زمان و مكان ؟

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ


كثيرا ما نسمع مقولة القرآن غير صالح لكل زمان ومكان وأنه مجرد كتاب بدائي يعبر عن عقلية سكان الجزيرة العربية المحدودة في بيئتهم الجغرافية و حقبتهم الزمنية و الدليل أنه لم يذكر شيئا عن باقي مناطق العالم و عن شعوبها وحيواناتها وثمارها ألخ القرآن لم يذكر شيئا عن المستقبل بما سيحمله من  مكتشفات كإختراع السيارات والطائرات والصواريخ ألخ أحكام القرآن أحكام همجية بدائية لا يمكنها أن تتماشى إلا مع ثقافة قطاع الطرق وفي أي حال من الأحوال مع مجتمعات القرن 21 المتحضرة التي تحترم حقوق الإنسان
طبعا عندما تعرض الأمور بهذه الطريقة على أمة لا تقرأ كتاب ربها أصلا أمة لا تستطيع التمييز بين نصوص القرآن والتفاسير والروايات المنسوبة للرسول فقد تنطوي مثل هذه الأقوال على البعض ممن يجهلون طبيعة النص القرآني 
وعلى النقيض من ذلك سنجد فئة أخرى تسعى لعصرنة النص القرآني إن صح التعبير عن طريق محاولة ربط جميع نصوصه بمستجدات العصر من خلال إختراع تفاسير ظنية لا تمت لواقع النصوص بصلة في سبيل إثبات تماشي القرآن مع كل زمان ومكان 
فأين تكمن الحقيقية يا ترى ؟ هل القرآن كتاب خاص بقوم الرسول فقط ؟ أم أنه يخاطب جميع أمم الأرض في كل زمن و مكان ؟
الحقيقية التي يجب أن يدركها كل من يريد دراسة كتاب الله لفهم طبيعته أو حتى لنقد أحكامه ونصوصه نقدا بناء أن هذا الأخير عبارة عن كتاب أمثال
كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) سورة فصلت
وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43) سورة العنكبوت
ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) سورة الروم
بمعنى أن الله تعالى جعله كتاب مفصل ومؤلف من مجموعة أمثلة لأقوام معينة لتكون عبرة للناس حتى قيام الساعة  سواء تعلق الأمر بالأمم السابقة لنزول القرآن 
وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34) سورة النور
لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111) سورة يوسف
أو تلك المعاصرة لزمن نزوله
وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33)  سورة الفرقان
ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28)  سورة الروم
و بالتالي فمن العبث إتهام القرآن بما لم يدعيه عن نفسه والمطالبة بإخباره عن تفاصيل الأمم المستقبلية أو الخارجة عن نطاق البعثة المحمدية لأننا لو تفكرنا قليلا في الأمر فستبدو فكرة المطالبة بكتاب يسرد لنا جميع أخبار أمم الأرض بأدق تفاصيلها إلى موعد قيام الساعة ضربا من العبث لأنه سيحتاج مجلدات سيضيع فيها جوهر الدين وأحكامه الأساسية وسط ركم من التفاصيل المملة لذلك إختار الله تعالى أن يضرب لنا مثلا بأقوام محدودة في منقطة جغرافية معينة لتكون عبرة ومثال يحتدى به لجميع الأمم والحقب الزمانية إلى يوم يبعثون 
فيجب إستيعاب حقيقية أن القرآن موجه في المقام الأول لقوم الرسول وأن السواد الأعظم من نصوصه تخاطب مجتمعهم وبالتالي فإن محاولة إسقاطها على عموم البشر سيخرجها من سياقها الحقيقي ويسقط القرآن في شبهات هو في غنى عنها وعلى سبيل المثال عندما يتم تفسير مصطلح الأرض إنطلاقا من منظورنا الحديث على أنه وصف لكوكب الأرض 
وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) سورة ق
مما يوحي بعدم كروية كوكب الأرض في نصوص القرآن الذي يبقى في حقيقة الأمر مجرد خطاب موجه لقوم الرسول حسب منطقهم ولغتهم بمصطلحاتها المعاصرة التي تختلف كليا عن مصطلحاتنا الحديثة والتي بالتأكيد لم تشمل تعريف الأرض بالكوكب الذي نعيش على ظهره والذي كانوا يجهلون حتى حقيقة وجوده حينها
نفس الشيء بالنسبة لتعريف السماوات في القرآن والذي حاول بعض المفسرين الجدد تفسيرها بالمجرات والأنظمة الشمسية ألخ رغم أنها كانت تشير  بالنسبة لقوم الرسول للجزء المرئي من السماء  
 الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4) سورة الملك
فعندما يضرب القرآن المثل للمخاطبين في نصوصه بعظمة مواقع النجوم 
لَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) سورة الواقعة
فهو بالتأكيد يقصد قوم الرسول الذين كانوا يجهلون هذه الحقيقية لَوْ تَعْلَمُونَ و ليس من يدرك حجم المسافات الشاسعة بينها التي تصل لملايير السنين الضوئية لكنه في نفس الوقت يوجه رسالة غير مباشرة لمن سيكتشف ذلك لاحقا على علم منزل القرآن بهذه الحقيقة
عندما يضرب الله المثل للمخاطبين في القرآن بوسائل نقل مجهولة 
وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8) سورة النحل
فهو بالتأكيد لا يخاطب أصحاب هذه الوسائل بل قوم الرسول الذين كانوا يجهلونها وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ لكنه هنا أيضا يوجه رسالة غير مباشرة تؤكد علمه بوجود وسائل نقل غير تلك المذكورة في القرآن على خلاف ما يتوهمه المبطلون
والأمثلة كثيرة فما يجب إدراكه هو أن القرآن كتاب موجه لقوم الرسول بلغتهم ومنطقهم ورؤيتهم للأشياء و بالتالي فإننا ملزمين بإحترام هذه المعايير لفهم النص القرآني على أصح وجه ممكن ولكن في نفس الوقت هذا لا يعني أننا لسنا ملزمين بقصصه بل على العكس فجل نصوص القرآن تبقى أمثلة موجهة لعموم البشر لكن الناس لا تفرق بين الأمر المباشر الذي يستلزم الطاعة والتطبيق الحرفي بناء على ظروف اللحظة كما كان الشأن بالنسبة لقوم الرسول وبين المثل الذي يبقى عبرة يحتدى بها حسب معطيات وظروف الزمان والمكان و كمثال عندما يخبر الله تعالى المؤمنين في زمن الرسول بقوامة الرجل على المرأة 
الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء (34) سورة النساء
فإنه يوضح في نفس الوقت أن أساس القوامة آنذاك كان يقوم على مبدأ إنفاق الرجل على المرأة
الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ (34) سورة النساء
و بالتالي فإن العبرة التي يجب إستخلاصها  من هذا المثل أن مبدأ القوامة يقوم على الإنفاق وليس على نوع الجنس وأنه لا يوجد ما يمنع المرأة من القوامة في مجتمعنا المعاصر 
نفس الشيء ينطبق على شهادة المرأة
وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا (282) سورة البقرة
التي كما يتبين هنا أيضا أن سبب جعلها بنصف شهادة الرجل هو خشية خطأها أثناء الشهادة وذلك راجع لجهلها الشديدة المرتبط بوضعيتها الإجتماعية آنذاك مما يجعل هذا الحكم غير ملزم في أي حال من الأحوال للمرأة المتعلمة والواعية في مجتمعنا المعاصر
فجوهر الأحكام لا يتغير فقط التفاصيل هي التي تتغير قياسا على ظروف كل مجتمع و كل حقبة زمنية
فعندما يضرب القرآن الأمثلة للناس فلا يجب إعتمادها بالحرف فيمكن تعويض الخيل المسومة بالسيارات الفاخرة بالنسبة لمجتمعنا الحالي
زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) سورة آل عمران
مثلما لا يجب الإعتقاد أننا لن نجد في الجنة سوى ما وعد به قوم الرسول في نصوص القرآن
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) سورة فاطر
و يبقى السؤال المطروح  هل هذه الأمثلة صالحة لكل زمان و مكان ؟ الجواب في الإستعمال السليم لنصوص وأحكام القرآن على أرض الواقع والذي لن يتأتى لنا معرفته إلا بالتخلي عن منطق وفهم السلف للقرآن و سعيهم لتطبيق أحكامه ونصوصه بالحرف بعيدا عن جوهر أحكام القرآن الحقيقية وإذا أضفنا إلزام أتباع الفكر السلفي بما يسمونه بالسنة النبوية بأدق تفاصيلها كطريقة لبس و مشي الرسول وحتى طريقة قضائه لحاجته فعلى دين الله السلام