عذاب قوم إبراهيم

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ


من بين أكثر الأشياء التي تطرق لها القرآن بإسهاب ذكره لقصص أمم و أقوام الأنبياء الذين بعثوا قبل محمد بما في ذلك نهايتهم المأساوية التي تطرق لها القرآن بأدق التفاصيل في عدة مواضع لكن وسط كل هذا الزخم من النذر نجد غياب شبه كلي لمصير قوم إبراهيم الكفار 
فلا مجال للشك عند دراسة مختلف نصوص القرآن بأن قوم إبراهيم كفروا ربهم و لم يتوبوا شأنهم شأن جل قرى الأنبياء التي أهلكت بظلمها
قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70) وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71)  سورة الأنبياء
وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)  سورة التوبة
لكن ما هو مصيرهم ؟ هل أهلكهم الله تعالى مثل باقي الأمم الكافرة ؟
وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77)  سورة التوبة
بطبيعة الحال لا تبديل و لا تحويل لسنة الله فقوم إبراهيم أهلكوا شأنهم شأن كل من سبقهم و من خلفهم من الفاسقين و هو ما أكده القرآن رغم ذكره لذلك بإقتضاب شديد
أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70)  سورة التوبة
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44)  سورة التوبة
و مع ذلك تبقى تفاصيل عذابهم مجهولة على خلاف أقوام أخرى كقوم نوح الذين أغرقوا
فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ (120)  سورة الشعراء
و قوم هود و ريحهم 
إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20)    سورة القمر
و قوم صالح و صيحتهم
إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31)  سورة القمر
و قوم شعيب و سحابتهم
فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189)  سورة الشعراء
و قوم لوط و مطرهم
 فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82)  سورة هود
رغم أن القرآن في مجمله قد أعطى أهمية كبرى لقصة نبي الله إبراهيم و أسهب في ذكرها أكثر من قصص الأنبياء السالفي الذكر بإستثناء جزئية عذاب قومه 
و إذا ظهر السبب بطل العجب لأننا عند العودة لنفس القرى المهلكة سنجد أن القاسم المشترك بينها هو قربها الجغرافي الكبير من قرية محمد كعاد و ثمود
وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38)  سورة العنكبوت
و بالأخص قرية لوط 
وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (138)  سورة الصافات التي التي كانت تعتبر إلى جانب مدين إمام مبين لقوم الرسول بمعنى مثالا واضحا لهم
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76)إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77) وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ (79)  سورة الحجر
و هذا القرب الجغرافي هو الذي جعل قصص هلاك و عذاب هذه الأقوام يبقى حاضرا في تراث و فلكلور نفس المنطقة حتى لحظة نزول القرآن الذي يروي لنا في أكثر من آية معرفة الكفار المسبقة بسبب هلاك أسلافهم حتى قبل بعثة النبي محمد من خلال رؤية آثار الدمار الذي حل بمساكنهم
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82)  سورة الفرقان
وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا (40)  سورة الفرقان
وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38)  سورة العنكبوت
و الذي أخذ مع مرور الزمن طابعا أسطوريا 
إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15)  سورة القلمو
جاء القرآن ليخرجه من هذه الصورة التي صنعها الكفار مع مرور الوقت للهروب من واقع ما حل بأسلافهم
وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا (40)  سورة الفرقان
و نستطيع أن نضيف إلى نفس التراث قصتي موسى التي كانت حاضرة بقوة في محيط قوم الرسول 
وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46) وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47) فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48)  سورة القصص
و قصة نوح التي لم تكن حاضرة في تراث المنطقة فحسب  بل في عشرات الحضارات القديمة
و هنا نستنتج أن سبب عدم ذكر القرآن لقصة هلاك قوم إبراهيم و إنذار قوم الرسول بها فبسبب جهلهم الكلي لها كونها لا تنتمي لتراثهم و لا لمحيطهم الجغرافي فإذا كان قوم الرسول قد أنكروا حتى قصص الأقوام المجاورة لهم التي كانوا يرون آثار خرابها ليلا نهار و جعلوها في مصاف الخرافات و الأساطير فما الفائدة بتخويفهم بقصة قوم لا يعرفون عنهم شيئا
و قد تجاهل القرآن ذكر تفاصيل عذاب العديد من الأقوام لنفس السبب
وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17)  سورة الإسراء
(37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (38) وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا (39)  سورة الفرقان
و من دقة القرآن الكبيرة أنه لم يشر لعذاب قوم إبراهيم حتى مرحلة ما بعد هجرة الرسول محمد من قريته و فتحه و إستقراره بالمسجد الحرام الذي كان تراثه و محيطه الجغرافي على علم بقصة هلاك قوم إبراهيم 
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)  سورة التوبة
و الملاحظ أيضا في نفس مرحلة ما بعد الهجرة غياب تفاصيل عذاب و هلاك أقوام الأنبياء السابقين مما يؤكد أن التحذير و الإنذار من العذاب الدنيوي كان موجه بالأخص لقوم الرسول الذين أهلكوا بعد إخراجهم للرسول محمد
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ (13)  سورة محمد
 كما يوضح هذا الموضوع
مصير قرية الرسول محمد
طبعا أصحاب المذاهب لهم رؤية مختلفة كليا فالنسبة إليهم مكة الحالية هي قرية الرسول محمد الأصلية و في نفس الوقت قرية المسجد الحرام التي هاجر و إستقر فيها نبي الله إبراهيم و ذريته 
و عندما نلقي نظرة على التراث الجغرافي الموروث لمواقع قرى الأنبياء المهلكة فإننا نلاحظ أنهم جعلوا كافة الشرق الأوسط و شبه الجزيرة العربية مسرح للقصص القرآني حين قاموا بنسب مواقع القرى المهلكة لمختلف بلدان المنطقة
و زعموا أن سكان مكة الحالية كانوا على علم بجل قصص الشعوب السابقة في المنطقة لكن يبقى السؤال لماذا لم يكونوا بعلم بقصص شعوب العراق و بالاخص قصة هلاك قوم إبراهيم الذي من المفترض أن تكون حاضرة بقوة قبل غيرها في تراث مكة التي إستقر بها أبناء إبراهيم على حد زعمهم ؟
لكن ماذا سننتظر من قوم يسبقون النقل على العقل و يرفضون رؤية الحقيقة مهما كانت واضحة و يتشبثون بتاريخ و جغرافيا ظهرت عورتهما للعيان 

تعليقات

  1. أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم و أشد قوة و ءاثارا في الأرض فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم و حاق بهم ما كانوا به يستهزؤون فلما رأوا بأسنا قالوا ءامنا بالله وحده و كفرنا بما كنا به مشركين فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنت الله التي قد خلت في عباده و خسر هنالك الكافرون

    هاذه الآيات من سورة غافر

    ردحذف

إرسال تعليق