مفهوم السماوات و الأرض في القرآن

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ


في الماضي وبالضبط في زمن تنزيل القرآن كان مفهوم السماوات والأرض جد بسيط ومتمثل في البقاع الأرضية التي كانوا يعيشون فيها وينتقلون في أقطارها والجزء المرئي من الفضاء الذي كانوا يبصرونه فوقهم فجاء القرآن ليخاطبهم في جل النصوص إنطلاقا من هذا المنظور وهذا الفهم وليس من منظورنا وفهمنا المعاصر للأشياء الذي يبقى للإشارة جد محدود وقابل للتغيير مع تطور العلم
في عصرنا الحالي حاولت العديد من الإجتهادات حصر مفهوم الأرض والسماء في فهم واحد و هذا ما ولد عدة إختلافات فهناك من حصر مفهوم السماوات في طبقات الغلاف الجوي والأراضي في طبقات الأرض وهناك من رأى أن السماوات هي تعبير عن التدرج في الأجرام الفضائية السماء الدنيا هي الغلاف الجوي السماء الثانية هي المجموعة الشمسية الثالثة هي مجرة درب التبانة ألخ و الآراء كثيرة في هذا المجال
لكن ما يهمنا ليس إسقاط فهمنا المعاصر على نصوص القرآن وهذه للإشارة كانت غلطة المفسرين الأوائل  بدل فهم المعنى المراد من النصوص حسب السياق
مفهوم الأرض في القرآن  
العديد يعتقدون باقتصار مفهوم الأرض في القرآن على  على كوكبنا الحالي إنطلاقا من بعض النصوص 
قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24) قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25) سورة الأعراف
لكن لو قمنا بتدبر نصوص أخرى سنكتشف بسرعة أن مفهوم الأرض متغير ونسبي حسب السياق فتارة يشير للأرض الحالية ويؤكد أنها ستدك 
كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) سورة الفجر
و ستبدل بغيرها
 يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48) سورة إبراهيم
و تارة أخرى نجده يشير لأرض الآخرة التي ستعوض الأرض الحالية
وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69)  سورة الزمر
و قد سبق التطرق لنسبية الخطاب القرآني في موضوع
النسبية في القرآن
ولتغيير وصف الأشياء حسب الزمان والمكان فعندما خرج آدم من الجنة أصبح وصف الأرض التي سيعيش ويموت ويخرج منها هو وذريته ينطبق على كل أرض خارجة عن نطاق نعيم الجنة وليس فقط كوكبنا الحالي  وفي نفس الوقت هذا لا يعني بتاتا أن هذه الأخيرة ليست أرضا لكنها لم توصف كذلك لأنها خارجة عن نطاق أرض الشقاء التي كتب آدم على نفسه بإقترافه للمعصية 
فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117) إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119) سورة طه
 و لو تدبرنا جيدا قول
وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)  سورة الزمر 
سنجدها تتحدث عن الأرض بصيغة الجمع في إشارة إلى قبضة الله لعدة أراضي يوم القيامة وليس أرضا واحدة بالإضافة لطي السماوات بيمينه مما يعود بنا إلى النص الذي يشير بوضوح إلى وجود عدة أراضي في الكون بنفس كثرة السماوات
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (12) سورة الطلاق
بل نجد تأكيد واضح على وجود دواب أي مخلوقات مثلنا تعيش في العديد من هذه الأراضي التي تنتمي في نفس الوقت لسماوات الأرض من منظور سكانها
وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29) سورة الشورى
فوصف الأرض في القرآن وصف نسبي قد ينطبق على كوكبنا الحالي أو على جميع كواكب الكون أو حتى على أرض الآخرة وفي نفس الوقت قد ينطبق فقط على جزء صغير من كوكبنا الحالي مثل بلد أو قرية 
وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76) سورة الإسراء
فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (80) سورة يوسف
أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) سورة المائدة
 طبعا لن يشك عاقل في أن المقصود بالأرض في هذه النصوص بقع الأرضية محدودة وليس عموم كوكب الأرض فيجب التمييز بين معاني الأرض في القرآن ومراعاة السياق والخطاب وكمثال 
وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ (82)  سورة النمل
فلا يمكننا الجزم هنا أن المقصود بالأرض هو كوكبنا الحالي لأننا لا ندري هل المخاطبون فيها سيتواجدون في كوكب الأرض حينها أم في كوكب أخر و أن الدابة المقصودة فيها ليست بمخلوق عاقل مثل الإنسان 
ونفس ما قيل عن مفهوم الأرض في القرآن ينطبق على مفهوم السماء
مفهوم السماء في القرآن  
و نفس المنطق ينطبق أيضا على مفهوم السماء المصلطح المشير في لغة القرآن لكل ما لا ينتمي لأرض  المخاطبين في النصوص سواء كام مرئيا بالنسبة إليهم أو غير مرئي والذي لا يمكن حصره في جسم معين سواء الغلاف الجوي أو المجموعة الشمسية أو الكون ألخ ففي بعض النصوص ينطبق وصف السماء على الجنة و الآخرة
وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) سورة الذاريات
إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) سورة الأعراف
و في بعض المرات على السحاب فقط 
فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) سورة القمر
و بطبيعة الحال في العديد من النصوص ينطبق هذا الوصف على الغلاف الجوي للأرض الذي تشكل عن طريق ارتفاع الغازات تدريجيا من الأرض كما جاء في نص سورة النازاعات الذي وصف العملية برفع سمك السماء
أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) سورة النازعات
فالسياق هو من يحدد  طبيعة مصطلح السماء التي يقوم العديد بخلطه مع مصطلح الفضاء قائلين كيف يقر قرآنكم بإمكانية سقوط السماء على الأرض
وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ (65) سورة الحج
بسبب جهلهم بتعريف لغة القرآن لكل جسم ساقط من السماء 
وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ (44) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) سورة الطور
بالسماء
أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا (92) سورة الإسراء
ويبقى خير شاهد على نسبية لفظ السماء في القرآن تعريف السماء الدنيا التي تمثل جزء من عموم السماء وليس كل السماء
وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ (5) سورة الملك
بالسماء
وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16) سورة الحجر
مفهوم السماوات في القرآن
في المقابل بالنسبة للسماء الدنيا فالمعنى ثابت وهو الجزء المرئي للإنسان من السماء الذي تم تزيينه بالنجوم 
وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ (5) سورة الملك
إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) سورة الصافات 
وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا (12) سورة فصلت
والذي تم تعريفه أيضا بالسماوات السبع
الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5) سورة الملك
ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12) سورة فصلت
فالسماء الدنيا ليست جزء من السماوات السبع بل هي السماوات السبع وهنا أود التوقف عند نقطة بالغة الأهمية ألا وهي إستعمال الرقم سبعة للإشارة لعدة السماوات و الأراضي في كتاب
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ (12) سورة الطلاق
نفس الرقم الذي استعمل لتحديد عدد البحار أيضا
 وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27)  سورة الطلاق
ويبقى السؤال المطروح هنا هل المقصود بلفظ سبعة هو بالفعل العدد سبعة وبالتالي تمت مقارنة غزارة كلمات الله بسبعة أبحر فقط ؟ أم للكلمة دلالات أخرى في كتاب الله ؟ فهل من الصدفة أن يذكر الله تعالى وجود سبع أراضي وبحار وسماوات أم أن المراد هنا هو الإشارة للكثرة والكثافة العددية ؟
فما المقصود بالسبع المثاني ؟ هل هو بالفعل عدد آيات فاتحة القرآن
وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) سورة الحجر
أم أنه يشير للكثافة العددية ؟
اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ (23) سورة الزمر
و الملفت هو اعتراف مفسري السلف أنفسهم بدلالة لفظ المثاني على الكثرة
تفسير بن كثير
{ مثاني} ترديد القول ليفهموا عن ربهم تبارك وتعالى، وقال عبد الرحمن بن زيد: { مثاني} مردَّد، ردد موسى وصالح وهود والأنبياء عليهم الصلاة والسلام في القرآن في أمكنة كثيرة، وقال ابن عباس: { مثاني} أي القرآن يشبه بعضه بعضاً، ويُرَدُّ بعضه على بعض
فكيف يستقيم ذلك مع تفسير السبع المثاني بعدد آيات سورة الفاتحة السبع المنفردة والغير متشابهة ؟ ويبقى تعريف السماوات السبع بالسماوات العديدة هو المعنى الأقرب لواقع النصوص وأن كل ما نراه فوقنا من نجوم يعتبر سماوات وفي نفس الوقت لا يلغي وجود أضعاف مضاعفة منها لا ترى بالعين المجردة ويجيب على التساؤل الذي يطرحه العديد بسبب تعريف الكون بالسماوات كيف يكون القمر القزم نورا في السماوات الشاسعة ؟
أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16)  سورة نوح
لأن السماوات في حقيقية مجرد وصف لنظرة الإنسان لشكل وحجم الأجرام التي تبعد عنه بمسافات قد تصل لملايير السنين الضوئية عكس القمر الذي يبدوا كبيرا نسبيا لقربه الشديد من الأرض التي لا يبعد عنها سوى بثانية ضوئية واحدة لذلك اعتبر في القرآن نورا في السماوات بحجمها الذي يراه الإنسان من الأرض كمن يمسك بمصباح كبير في يده يضيء له آخر النفق 
فيجب على كل دارس متدبر لكتاب الله أن يأخذ بعين الإعتبار نسبية الوصف ليس بالنسبة للسماء والأرض فحسب بل عند تدبر كل معلومة قرآنية والتركيز على السياق والمخاطبين في النصوص لإدراك هوية السماوات و الأراضي المذكورة حسب كل نص حتى لا نسقط في التناقض والتعارض بين النصوص