مفهوم السجود و المساجد

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ




على عكس ما صورته لنا الأديان و المذاهب بأن السجود هو عبارة عن حركة الوقوع أو الإنبطاح أرضا فإن هذا الأخير صفة تتحقق بين العبد و ربه أثناء العبادة و لا تقتصر على حركات معينة و تبقى هذه الأخيرة مجرد تعبير عن الصفة المذكورة 
و بعيدا عن السجود أثناء الصلاة الذي يعبر عنه حركيا بالسقوط أرضا ذكر لنا القرآن حالات يتحقق من خلالها السجود دون القيام بأي حركة 
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18)  سورة الحج
فالملاحظ هنا أن السجود ليس حركي لأن أغلب المخلوقات المذكورة في الآيات لا تعبر عن سجودها لله بحركات و يبقى الكفار هم الإستثناء الوحيد و طبعا السجود المقصود في الآية هو السجود الإرادي لكن في حقيقة الأمر نجد مفهوم السجود أكثر شمولية من ذلك فالكفار أنفسهم يسجدون رغم عنهم كما جاء في الآية
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (15)  سورة الرعد
فمفهوم السجود  الحقيقي هو الخضوع لله و سجود الكفار هنا معناه خضوعهم لمشيئته و عدم قدرتهم على فعل أي شيء خارج عن إرادته فكل مخلوق في الكون إلا وهو خاضع لله شاء أم أبى و سيتبين هذا المعنى جليا في الآية 
وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58)  سورة البقرة
حيث عبر عن السجود هنا بدخول بني إسرائيل باب القرية خاضعين لأمر الله و ليس منبطحين أرضا و قد إعتبر تصرف الكفار منهم حينها كرفض للسجود أي رفض الخضوع و الإمتثال لأوامر الله
فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59)  سورة البقرة  
فالسجود أشمل و أعمق من أن يكون مجرد حركة جسدية بل هو الخضوع التام لله تعالى
و إذا كان معنى السجود هو الخضوع فنفس المفهوم سينطبق على المساجد أي أنها أماكن يتم الخضوع فيها لله 
فيجب التمييز بين المساجد كوصف لكل مكان يعبد فيه الله و بين البيوت الخاصة بالعبادة و التي قاموا بحصر مفهوم المساجد فيها
فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36)  سورة النور
بينما معنى المسجد أشمل من ذلك بكثير و ينطبق على كل مكان يعبد الله فيه بما في ذلك بيوت المؤمنين
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87)  سورة يونس
 و لعل أبرز مثال على هذا الوصف المسجد الحرام الذي قاموا بتصويره على أنه بيت ثاني مجاور للكعبة البيت الحرام
جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97)  سورة المائدة
فهناك بيت واحد هو الكعبة هو من طهره إبراهيم و إتخده قومه مصلى
وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)  سورة البقرة  
أما المسجد الحرام فهو وصف بالقرية التي يتواجد بها البيت الحرام
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96)  سورة آل عمران
و قد وصفت كذلك لأنها قرية خاصة بعبادة الله و بالتالي الخضوع و السجود له و تتجلى هذه الحقيقة في العديد من الآيات
وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196)  سورة البقرة
فالمقصود هنا بحضور المسجد الحرام هو حضور قرية بكة
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)  سورة البقرة
و المقصود بإخراج أهل المسجد الحرام هو إخراج أهل بكة
وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191)  سورة البقرة
و طبعا المقصود من تحريم القتال بالمسجد الحرام هو تحريم القتال ببكة تماما مثلما حرمت هذه القرية المقدسة على المشركين
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28)  سورة التوبة
و ستتجلى هذه الحقيقة بوضوح في الآياتين التاليتين
وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (34) وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35)  سورة الأنفال
فالصد كان عن الدخول لكل القرية أما الصلاة فإقتصرت على البيت فقط
 فالمسجد هو كل بقعة يسجد و يخضع فيها المرأ لربه سواء كان ذلك في بيت خاص للعبادة أو في مكان تتوفر فيه شروط العبادة و الله تعالى أعلم