بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
من أسس الفهم السليم لدين الله التجرد التام من الموروث الديني البشري وما يحمله من أفكار مسبقة تمنع التدبر السليم لكتاب الله وإذا أردنا بالفعل إعادة قراءة النص القرآني بعيون الحياد والمنطق فيجب البدأ من الأسس وأولها مفهوم مصطلح الدين نفسه
فلو سألنا أغلب المؤمنين برسالة القرآن عن هويتهم الدينية فستجيب الغالبية الساحقة بدون تردد أنهم من المسلمين لكن كيف سيدرك مفهوم الإسلام وهو لا يعلم المعنى الحقيقي للدين نفسه ؟
يختزل غالبية الناس مفهوم الدين في المعتقد ظنا منهم أن الدين الإسلامي هو الإعتقاد ببعض الثوابت كالإيمان بالله واليوم الآخر والملائكة والرسل ألخ دون التدقيق في المعنى اللغوي لمصطلح الدين في لغة القرآن الذي يبقى المفتاح الأساسي لفهم دين الله على أكمل وجه
يقول تعالى في كتابه
الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا (3) سورة المائدة
لن يختلف إثنان على كون النص من أواخر ما أنزل من القرآن سواء بإخباره بيأس الكفار من القضاء على دين الله أو بإعلانه لإتمام دينه العظيم لعباده المسلمين لكنها في نفس الوقت تؤكد بشكل قاطع أن الدين لم يتم إلا بإكتمال نزول سور القرآن بكل ما تحمله من قوانين وأحكام ربانية
فلو كان الدين مجرد طقوس ومعتقدات ألم يكن مكتملا منذ فرض الصلاة والزكاة والحج ألخ ألم يكن مكتملا بمجرد الشهادة بالله ورسوله محمد التي جعلها البعض أساس الدين الإسلامي ؟ فمن الواضح هنا أن مفهوم الدين هو مجموع القوانين والفرائض التي سنها الله لعباده في مختلف رسالاته والتي لم تكتمل إلا بإكتمال آخر نصوص رسالته الخاتمة
و يبقى التعريف اللغوي الأقرب للمفهوم الحقيقي للدين في لغة القرآن هو الدستور وهو ما يجليه بوضوح قوله النبي يوسف لأخيه الذي وصف القناون الأعلى لملك مصر بالدين
كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ (76) سورة يوسف
فالدين هو مجموع القوانين التي تحدد طريقة ونمط عيش الأمم والذي دفع خوف فرعون قومه من تغييره إلى رفض رسالة موسى
وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26) سورة غافر
و الذي وصف أيضا بالطريقة المثلى
قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (63) سورة طه
أي منهج آل فرعون في تسيير وحكم البلاد
و سنجد تكرارا لنفس المعنى في نص سورة التوبة
إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً (36) سورة التوبة
الذي وصف مجموع القوانين المتعلقة بالأشهر الحرم بالدين
كتحريم صيد البر
أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96) سورة المائدة
وتحريم القتال
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ (217) سورة البقرة
الإستثناءات التي تبيح القتال خلالها
الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194) سورة البقرة
فيمكن إعتبار القوانين الخاصة بالأشهر الحرم دين داخل دين الله العام المتمثل في إسلام الوجه لرب العالمين
وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125) سورة إبراهيم
بمعنى الإنقياد وطاعة جميع أوامره وأحكامه في جميع أمور الحياة
قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) سورة الأنعام
ومن هنا نستنتج أن الله تعالى أنزل على عباده دينا واحدا تطور عبر عدة رسالات سماوية وأن لا وجود لما يسمى بالأديان السماوية التي تبقى كلها بإستثناء الإسلام أديان أرضية بشرية ولو إدعى أتباعها العكس
وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33) سورة التوبة
و يبقى السؤال المطروح هل يعمل أتباع رسالة القرآن بدين الله الحق ؟ الجواب يوم القيامة الذي وصف بيوم الدين
مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) سورة الفاتحة
بمعنى يوم القانون الذي سيعم فيه القانون الإلهي على جميع البشر
يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25) سورة النور
فعندما نقوم بمقارنة التعريف الحقيقي للدين في القرآن بما هو متداول لدى عامة الناس سنجد أن هذا الأخير قام بإفراغه من جوهره وحصره في المعتقد مما أثر سلبا على علاقة الناس بربهم وطريقة فهمهم لرسالة القرآن
تعليقات
إرسال تعليق