بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
عندما يتم التطرق لموضوع الجن و الملائكة أول ما يتبادر للأدهان أنها مخلوقات غير مادية و غير مرئية بالنسبة لعين الإنسان و قد ظل هذا الإعتقاد سائدا طيلة القرون الماضية حتى خرج علينا البعض بفكرة جديدة و تفسير حديث للنصوص يوحي بانتماء الجن لفصيلة البشر مما ولد اختلاف بين مؤيدي هذه الفكرة و المتشبثين بالفكرة التقليدية لكن ماذا لو كان هنالك إحتمال ثالث يجمع بين الفرضيتين معا و يعطي تفسير منطقي للدلائل التي يتمسك بها كل طرف لإثبات صحة وجهة نظره
يستهزئ أعداء الإسلام بأعداد الملائكة التي شاركت في حروب البعثة المحمدية كغزوة بدر قائلين هل هذا كل ما قدرت عليه آلاف الملائكة أن تقتل 70 مشركا و ليتها فعلت ذلك حقا فحسب الروايات التي نقلت نفس حصيلة القتلى فإن العديد منهم مات على يد أتباع الرسول محمد و يبقى السؤال هنا هل هذه هي أقصى قدرات الملائكة ؟ لن أتطرق هنا لصحة هذه الأعداد و هذه الروايات و سأتركها لموضوع قادم إن شاء الله فما يهمنا حاليا هو إدراك الكيفية التي ساهمت بها الملائكة في هذه الحروب و سبب هذه الأعداد الهائلة التي شاركت في الحروب
أول سؤال يطرح نفسه هل تجسدت هذه الملائكة في شكل بشر أثناء الحروب أم أنها كانت غير مرئية بالنسبة لمن شارك في هذه المعارك ؟ يقول تعالى في كتابه
ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26) سورة التوبة
إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40) سورة التوبة
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9) سورة الأحزاب
للوهلة الأولى توحي النصوص أن هذه الجنود لم تكن مرئية للناس لكن هل نحن متأكدون من اقتصار مفهوم الرؤية على البصر فقط ؟ وهو ما يحيلنا إلى أسئلة أخرى تدخل في إطار نفس السياق هل رأى الرسول محمد بأم عينيه خلق الله للسماوات و الأرض ؟
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) سورة إبراهيم
و هل رأى بأم عينه الذين خرجوا من ديارهم و هم ألوف ؟
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243) سورة البقرة
و هل رأى بأم عينه الملأ من بني إسرائيل في عهد الملك طالوت ؟
أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) سورة البقرة
و هل رأى بأم عينه الذي حاج إبراهيم في الله ؟
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258) سورة البقرة
فالرؤية في لسان القرآن تشير إلى الإدراك و العلم و ليس بالضرورة إلى البصر فعالم الغيب يرى الأشياء دون إبصارها
أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (35) سورة النجم
حقيقة يعترف بها حتى مفسري السلف
{ أَلَمْ تَرَ } أَلَمْ تَرَ يَا مُحَمَّد بِقَلْبِك , فَتَعْلَم بِخَبَرِي إيَّاكَ يَا مُحَمَّد
فيجب التمييز بين الإبصار و النظر و الرؤية
فالبصر هو إلقاء النظر الذي يشترط فيه إدراك حقيقة الأشياء عكس النظر لا يشترط فيه بالضرورة حدوث هذا الإدراك
وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (198) سورة الأعراف
فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) سورة الواقعة
أما الرؤية فهي أشمل منهما و قد تتحقق بالبصر أو بالسمع أو بأي حاسة أخرى تسمح بإدراك المعلومة مما يغير كليا نظرتنا لمفهوم رؤية الملائكة أثناء الحروب
فقد يكون مفهوم عدم رؤية المؤمنين للملائكة بمثابة عدم إدراك لهويتهم كمن ينظر للشيء دون إدراك حقيقته و بالتالي فهو لا يبصره وبالتالي فهو لا يراه أيضا
فلنتخيل أجواء المعركة و جنود لا تبصر بالعين المجردة تقوم بضرب أعناق الكفار
إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12) سورة الأنفال
بطبيعة الحال سيلفت ذلك إنتباه بقية المقاتلين و رغم عدم إبصارهم للملائكة فإنهم في المقابل سيبصرون و يرون أعناق تطير و تضرب لوحدها و سيدركون حينها أن الملائكة قد شاركت في المعركة و بالتالي سيعتبر ذلك رؤية للملائكة بينما لو جاءت هذه الجنود في هيئة بشر و شاركت في المعركة دون أن تشعر بها أحد فسيكون ذلك بمثابة عدم إدراك و بالتالي عدم رؤية للملائكة و هذا الإحتمال هو الأقرب للواقع فالملائكة لم تأتي في هيئة جنود غير مرئية أو سوبرمانات بل في هيئة بشرية بقدرات قتالية قريبة من قدرات البشر حتى لا تلفت الإنتباه و هذا ما يفسر الأعداد الكبيرة منها التي شاركت في تلك الحروب والذي يعززه قول الرحمن
وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9) سورة الأنعام
الذي يخبر فيه رب العزة أنه في حالة إنزاله لملك رسول كما طلبوا فإنه سيكون حتما في هيئة بشر
و بقدر ما يجيب هذا التفسير على جزء كبير من هذه الشبهة و التي سأترك الجزء المتبقي منها إلى موضوع قادم بإذن الله بقدر ما يغير نظرتنا لمفهوم رؤية الجن و الملائكة و يفتح الباب لإحتمال جديد
فقد ظل الإعتقاد السائد لطبيعة الجن في القرآن لمدة طويلة أنها مخلوقات غير مرئية شبحية إن صح التعبير ثم ظهرت مؤخرا بعض التفاسير التي حاولت جعلهم فئة من البشر و يبقى عيبها الكبير تجاهلها لمجموعة من النصوص تنفي ذلك لكن ماذا لو كانت الجن مخلوقات مادية مثلنا تعيش وسطنا منذ قرون و تساهم في حياتنا بشكل لا نتصوره ؟ فلنتدبر قليلا هذه الآية التي تتحدث عن إبليس و ذريته من الجن
يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27) سورة الأعراف
اليت توحي للوهلة الأولى إستنادا على فهمنا التقليدي بتحدثها عن مكان غير مادي أو بعد آخر بالمفهوم العلمي الحديث تبصر منه الجن البشر لكن إعتمادا على مفهوم الرؤية في الأمثلة السالفة الذكر فيمكن تفسير عدم رؤيتنا للجن بعدم القدرة على إدراك هويتهم أو صورتهم الحقيقية و حتى تتضح الرؤية أكثر سأعطي بعض الأمثلة من القرآن
وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) سورة هود
عند قدوم الملائكة إلى إبراهيم لم يتعرف على هويتهم و بالتالي فإنه لم يراهم لحظتها رغم نظره لشكلهم البشري لكن بعد أن أخبروه أنهم رسل الله
فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (70) سورة هود
أدرك لحظتها أنهم ملائكة و بالتالي أصبح يراهم أي يعلم و يدرك هويتهم الحقيقية ونفس الاظاهرة تكررت مع لوط
لَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) سورة هود
و قومه الذين لم يروا هوية الملائكة و ظنوا أنهم مجرد مجموعة من البشر في ضيافة النبي لوط
وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78) سورة هود
فعندما يقول تعالى إنهم يرونكم من حيث لا ترونهم لا يعني بالضرورة المكان و قد إستعملت نفس العبارة للتعبير عن الوسيلة
فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) سورة القلم
فقد يكون المراد بها أن الجن يعلمون عنا كل كبيرة و صغيرة بفضل وسيلة التجسد في شكل بشر و معاشرتهم اليومية لنا و أننا في المقابل لا ندرك هذه الوسيلة و بالتالي لا نعلم هويتهم و حقيقتهم فمن يدري فربما نصادف الجن يوميا دون أن نشعر بهم و نستطيع تشبيه الأمر بالجواسيس التي تعيش في بلدان العدو ممتحنة لهويات كاذبة تمنع الناس من إدراك هويتهم و أهدافهم الحقيقية
فلو تدبرنا جيدا مفهوم إسم الجان المشتق من فعل جن الذي أشار به الله تعالى في نص الآية
فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) سورة الأنعام
إلى ظلام الليل الذي يخفي الأشياء و يمنع من رؤيتها سنجده وصف للمخلوق المتخفي او المجهول الهوية بالنسبة للإنسان و يبقى هذا الإسم مجرد إسم نسبي يمثل وجهة نظر الإنسان لهذا المخلوق و ليس بالضرورة أنه الإسم المتعارف بين أفراد الجن و بقية المخلوقات مما يعني أن هذا المخلوق دائم الملازمة للإنسان فيجب التمييز بين الغياب و التخفي الذي يشترط حضور المتخفي حتى يتسنى له التخفي عكس غيابه الذي يلغي صفة الجان من الأساس
مما يحيلنا إلى سؤال آخر كيف سخرت الجن للنبي سليمان ؟ هل كان يبصر مخلوقات غير مرئية أم أن الله ألهمه الوسيلة لإدراك هويتهم رغم تخفيهم في شكل بشر ؟
و هنا يتبادر إلى الدهن سؤال آخر ما هي لغة الجن ؟ فقد أشار القرآن لتعلم سليمان لمنطق الطير أي نطق و لغة الطير حتى يتسنى له التواصل معهم
وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) سورة النمل
لكن لا شيء عن منطق الجن مما يوحي أنهم كانوا يتحدثون نفس لغته و هذا ما سنلاحظه أيضا في قصة سماعهم للقرآن الذي نزل بلسان قوم الرسول
قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2) سورة الجن
وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) سورة الأحقاق
مما يوحي أن الجن مخلوقات ملازمة للإنسان تعيش في محيطه و تتحدث بلغته و سنجد العديد من الآيات تؤكد معاشرتهم للإنس
فإذا كان وحي الجن للإنس أمر طبيعي و مقبول فكيف يتم وحي الإنس للجن ؟
لذلك يختلط الأمر على البعض و يظنون أن الجن من البشر
و هنا أود طرح أحد نظريات المؤامرة المشهورة عالميا التي تتطابق مع هذه الفكرة و التي تدعي أن الإنسان محكوم منذ قرون طويلة بمخلوقات فضائية و البعض الآخر ذهب إلى أنها مخلوقات جوف أرضية تعيش تحت الأرض شبيهة بفصيلة الزواحف تأخذ شكل البشر و لا يزال نسلها مستمر إلى يومنا هذا يتحكم في البشرية و يحكم قبضته على أبرز مناصب القرار و إلى انتماء عدد كبير من الحكام و المشاهير لفصيلتهم
طبعا مثل هذه النظريات التي قد تبدو سخيفة للبعض رغم تأكيدها من رئيس فنزويلا السابق
لم تأتي من فراغ بل تعود بالأساس إلى تجسد الزواحف بقوة في شكل آلهة عبر العصور في مختلف الحضارات القديمة
و كما يقال لا يوجد دخان بدون نار
وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100) سورة الأنعام
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) سورة سبأ
فهل يبقى وصف القرآن للحية التي تنتمي لفصيلة الزواحف أيضا بالجان مجرد صدفة
قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18) قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20) سورة طه
وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) سورة القصص
رغم إحتمال أن تكون هذه التسمية مجرد وصف لتخفي الحيات عن الإنسان لكن عندما نجد نفس الوصف لإبليس المنتمي لفصيلة الجان
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50) سورة الكهف
في نصوص العهد القديم
سفر التكوين إصحاح 3
1 وَكَانَتِ الْحَيَّةُ احْيَلَ جَمِيعِ حَيَوَانَاتِ الْبَرِّيَّةِ الَّتِي عَمِلَهَا الرَّبُّ الالَهُ فَقَالَتْ لِلْمَرْاةِ: «احَقّا قَالَ اللهُ لا تَاكُلا مِنْ كُلِّ شَجَرِ الْجَنَّةِ؟» 2 فَقَالَتِ الْمَرْاةُ لِلْحَيَّةِ: «مِنْ ثَمَرِ شَجَرِ الْجَنَّةِ نَاكُلُ 3 وَامَّا ثَمَرُ الشَّجَرَةِ الَّتِي فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ فَقَالَ اللهُ: لا تَاكُلا مِنْهُ وَلا تَمَسَّاهُ لِئَلَّا تَمُوتَا». 4 فَقَالَتِ الْحَيَّةُ لِلْمَرْاةِ: «لَنْ تَمُوتَا! 5 بَلِ اللهُ عَالِمٌ انَّهُ يَوْمَ تَاكُلانِ مِنْهُ تَنْفَتِحُ اعْيُنُكُمَا وَتَكُونَانِ كَاللهِ عَارِفَيْنِ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ».
فهنا تطرح أكثر من علامة إستفهام ؟ بطبيعة لا أجزم هنا أن الجن من فصيلة الزواحف لكن الأكيد أن هذه النظرية ليست بعيدة عن الحقيقية و سنجد العديد من النظريات المشابهة و التي تتفق كلها على نفس فكرة المخلوقات الغير بشرية التي تعيش بيننا بنفس هيئتنا
فلا يهمننا حاليا إدراك نوع فصيلة الجن أو أصلهم بقدر ما يجب كشف و إدراك طريقة تحكمهم في البشر و الوسائل التي يستخدمونها لتسييرنا حسب أهوائهم و هنا أخص بالذكر الشياطين منهم و تبقى أول خطوة في هذا الطريق هي كشف وسيلة تخفيهم عنا حتى نراهم كما يروننا
يستهزئ أعداء الإسلام بأعداد الملائكة التي شاركت في حروب البعثة المحمدية كغزوة بدر قائلين هل هذا كل ما قدرت عليه آلاف الملائكة أن تقتل 70 مشركا و ليتها فعلت ذلك حقا فحسب الروايات التي نقلت نفس حصيلة القتلى فإن العديد منهم مات على يد أتباع الرسول محمد و يبقى السؤال هنا هل هذه هي أقصى قدرات الملائكة ؟ لن أتطرق هنا لصحة هذه الأعداد و هذه الروايات و سأتركها لموضوع قادم إن شاء الله فما يهمنا حاليا هو إدراك الكيفية التي ساهمت بها الملائكة في هذه الحروب و سبب هذه الأعداد الهائلة التي شاركت في الحروب
أول سؤال يطرح نفسه هل تجسدت هذه الملائكة في شكل بشر أثناء الحروب أم أنها كانت غير مرئية بالنسبة لمن شارك في هذه المعارك ؟ يقول تعالى في كتابه
ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26) سورة التوبة
إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40) سورة التوبة
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9) سورة الأحزاب
للوهلة الأولى توحي النصوص أن هذه الجنود لم تكن مرئية للناس لكن هل نحن متأكدون من اقتصار مفهوم الرؤية على البصر فقط ؟ وهو ما يحيلنا إلى أسئلة أخرى تدخل في إطار نفس السياق هل رأى الرسول محمد بأم عينيه خلق الله للسماوات و الأرض ؟
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) سورة إبراهيم
و هل رأى بأم عينه الذين خرجوا من ديارهم و هم ألوف ؟
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243) سورة البقرة
و هل رأى بأم عينه الملأ من بني إسرائيل في عهد الملك طالوت ؟
أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) سورة البقرة
و هل رأى بأم عينه الذي حاج إبراهيم في الله ؟
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258) سورة البقرة
فالرؤية في لسان القرآن تشير إلى الإدراك و العلم و ليس بالضرورة إلى البصر فعالم الغيب يرى الأشياء دون إبصارها
أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (35) سورة النجم
حقيقة يعترف بها حتى مفسري السلف
تفسير الطبري
فيجب التمييز بين الإبصار و النظر و الرؤية
فالبصر هو إلقاء النظر الذي يشترط فيه إدراك حقيقة الأشياء عكس النظر لا يشترط فيه بالضرورة حدوث هذا الإدراك
وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (198) سورة الأعراف
فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) سورة الواقعة
أما الرؤية فهي أشمل منهما و قد تتحقق بالبصر أو بالسمع أو بأي حاسة أخرى تسمح بإدراك المعلومة مما يغير كليا نظرتنا لمفهوم رؤية الملائكة أثناء الحروب
فقد يكون مفهوم عدم رؤية المؤمنين للملائكة بمثابة عدم إدراك لهويتهم كمن ينظر للشيء دون إدراك حقيقته و بالتالي فهو لا يبصره وبالتالي فهو لا يراه أيضا
فلنتخيل أجواء المعركة و جنود لا تبصر بالعين المجردة تقوم بضرب أعناق الكفار
إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12) سورة الأنفال
بطبيعة الحال سيلفت ذلك إنتباه بقية المقاتلين و رغم عدم إبصارهم للملائكة فإنهم في المقابل سيبصرون و يرون أعناق تطير و تضرب لوحدها و سيدركون حينها أن الملائكة قد شاركت في المعركة و بالتالي سيعتبر ذلك رؤية للملائكة بينما لو جاءت هذه الجنود في هيئة بشر و شاركت في المعركة دون أن تشعر بها أحد فسيكون ذلك بمثابة عدم إدراك و بالتالي عدم رؤية للملائكة و هذا الإحتمال هو الأقرب للواقع فالملائكة لم تأتي في هيئة جنود غير مرئية أو سوبرمانات بل في هيئة بشرية بقدرات قتالية قريبة من قدرات البشر حتى لا تلفت الإنتباه و هذا ما يفسر الأعداد الكبيرة منها التي شاركت في تلك الحروب والذي يعززه قول الرحمن
وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9) سورة الأنعام
الذي يخبر فيه رب العزة أنه في حالة إنزاله لملك رسول كما طلبوا فإنه سيكون حتما في هيئة بشر
و بقدر ما يجيب هذا التفسير على جزء كبير من هذه الشبهة و التي سأترك الجزء المتبقي منها إلى موضوع قادم بإذن الله بقدر ما يغير نظرتنا لمفهوم رؤية الجن و الملائكة و يفتح الباب لإحتمال جديد
فقد ظل الإعتقاد السائد لطبيعة الجن في القرآن لمدة طويلة أنها مخلوقات غير مرئية شبحية إن صح التعبير ثم ظهرت مؤخرا بعض التفاسير التي حاولت جعلهم فئة من البشر و يبقى عيبها الكبير تجاهلها لمجموعة من النصوص تنفي ذلك لكن ماذا لو كانت الجن مخلوقات مادية مثلنا تعيش وسطنا منذ قرون و تساهم في حياتنا بشكل لا نتصوره ؟ فلنتدبر قليلا هذه الآية التي تتحدث عن إبليس و ذريته من الجن
يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27) سورة الأعراف
اليت توحي للوهلة الأولى إستنادا على فهمنا التقليدي بتحدثها عن مكان غير مادي أو بعد آخر بالمفهوم العلمي الحديث تبصر منه الجن البشر لكن إعتمادا على مفهوم الرؤية في الأمثلة السالفة الذكر فيمكن تفسير عدم رؤيتنا للجن بعدم القدرة على إدراك هويتهم أو صورتهم الحقيقية و حتى تتضح الرؤية أكثر سأعطي بعض الأمثلة من القرآن
وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) سورة هود
عند قدوم الملائكة إلى إبراهيم لم يتعرف على هويتهم و بالتالي فإنه لم يراهم لحظتها رغم نظره لشكلهم البشري لكن بعد أن أخبروه أنهم رسل الله
فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (70) سورة هود
أدرك لحظتها أنهم ملائكة و بالتالي أصبح يراهم أي يعلم و يدرك هويتهم الحقيقية ونفس الاظاهرة تكررت مع لوط
لَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) سورة هود
و قومه الذين لم يروا هوية الملائكة و ظنوا أنهم مجرد مجموعة من البشر في ضيافة النبي لوط
وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78) سورة هود
فعندما يقول تعالى إنهم يرونكم من حيث لا ترونهم لا يعني بالضرورة المكان و قد إستعملت نفس العبارة للتعبير عن الوسيلة
فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) سورة القلم
فقد يكون المراد بها أن الجن يعلمون عنا كل كبيرة و صغيرة بفضل وسيلة التجسد في شكل بشر و معاشرتهم اليومية لنا و أننا في المقابل لا ندرك هذه الوسيلة و بالتالي لا نعلم هويتهم و حقيقتهم فمن يدري فربما نصادف الجن يوميا دون أن نشعر بهم و نستطيع تشبيه الأمر بالجواسيس التي تعيش في بلدان العدو ممتحنة لهويات كاذبة تمنع الناس من إدراك هويتهم و أهدافهم الحقيقية
فلو تدبرنا جيدا مفهوم إسم الجان المشتق من فعل جن الذي أشار به الله تعالى في نص الآية
فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) سورة الأنعام
إلى ظلام الليل الذي يخفي الأشياء و يمنع من رؤيتها سنجده وصف للمخلوق المتخفي او المجهول الهوية بالنسبة للإنسان و يبقى هذا الإسم مجرد إسم نسبي يمثل وجهة نظر الإنسان لهذا المخلوق و ليس بالضرورة أنه الإسم المتعارف بين أفراد الجن و بقية المخلوقات مما يعني أن هذا المخلوق دائم الملازمة للإنسان فيجب التمييز بين الغياب و التخفي الذي يشترط حضور المتخفي حتى يتسنى له التخفي عكس غيابه الذي يلغي صفة الجان من الأساس
مما يحيلنا إلى سؤال آخر كيف سخرت الجن للنبي سليمان ؟ هل كان يبصر مخلوقات غير مرئية أم أن الله ألهمه الوسيلة لإدراك هويتهم رغم تخفيهم في شكل بشر ؟
و هنا يتبادر إلى الدهن سؤال آخر ما هي لغة الجن ؟ فقد أشار القرآن لتعلم سليمان لمنطق الطير أي نطق و لغة الطير حتى يتسنى له التواصل معهم
وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) سورة النمل
لكن لا شيء عن منطق الجن مما يوحي أنهم كانوا يتحدثون نفس لغته و هذا ما سنلاحظه أيضا في قصة سماعهم للقرآن الذي نزل بلسان قوم الرسول
قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2) سورة الجن
وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) سورة الأحقاق
مما يوحي أن الجن مخلوقات ملازمة للإنسان تعيش في محيطه و تتحدث بلغته و سنجد العديد من الآيات تؤكد معاشرتهم للإنس
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128) وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130) سورة الأنعام
يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ (35) سورة الرحمن
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) سورة الأنعامفإذا كان وحي الجن للإنس أمر طبيعي و مقبول فكيف يتم وحي الإنس للجن ؟
لذلك يختلط الأمر على البعض و يظنون أن الجن من البشر
و هنا أود طرح أحد نظريات المؤامرة المشهورة عالميا التي تتطابق مع هذه الفكرة و التي تدعي أن الإنسان محكوم منذ قرون طويلة بمخلوقات فضائية و البعض الآخر ذهب إلى أنها مخلوقات جوف أرضية تعيش تحت الأرض شبيهة بفصيلة الزواحف تأخذ شكل البشر و لا يزال نسلها مستمر إلى يومنا هذا يتحكم في البشرية و يحكم قبضته على أبرز مناصب القرار و إلى انتماء عدد كبير من الحكام و المشاهير لفصيلتهم
طبعا مثل هذه النظريات التي قد تبدو سخيفة للبعض رغم تأكيدها من رئيس فنزويلا السابق
و كما يقال لا يوجد دخان بدون نار
وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100) سورة الأنعام
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) سورة سبأ
فهل يبقى وصف القرآن للحية التي تنتمي لفصيلة الزواحف أيضا بالجان مجرد صدفة
قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18) قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20) سورة طه
وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) سورة القصص
رغم إحتمال أن تكون هذه التسمية مجرد وصف لتخفي الحيات عن الإنسان لكن عندما نجد نفس الوصف لإبليس المنتمي لفصيلة الجان
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50) سورة الكهف
في نصوص العهد القديم
سفر التكوين إصحاح 3
1 وَكَانَتِ الْحَيَّةُ احْيَلَ جَمِيعِ حَيَوَانَاتِ الْبَرِّيَّةِ الَّتِي عَمِلَهَا الرَّبُّ الالَهُ فَقَالَتْ لِلْمَرْاةِ: «احَقّا قَالَ اللهُ لا تَاكُلا مِنْ كُلِّ شَجَرِ الْجَنَّةِ؟» 2 فَقَالَتِ الْمَرْاةُ لِلْحَيَّةِ: «مِنْ ثَمَرِ شَجَرِ الْجَنَّةِ نَاكُلُ 3 وَامَّا ثَمَرُ الشَّجَرَةِ الَّتِي فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ فَقَالَ اللهُ: لا تَاكُلا مِنْهُ وَلا تَمَسَّاهُ لِئَلَّا تَمُوتَا». 4 فَقَالَتِ الْحَيَّةُ لِلْمَرْاةِ: «لَنْ تَمُوتَا! 5 بَلِ اللهُ عَالِمٌ انَّهُ يَوْمَ تَاكُلانِ مِنْهُ تَنْفَتِحُ اعْيُنُكُمَا وَتَكُونَانِ كَاللهِ عَارِفَيْنِ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ».
فهنا تطرح أكثر من علامة إستفهام ؟ بطبيعة لا أجزم هنا أن الجن من فصيلة الزواحف لكن الأكيد أن هذه النظرية ليست بعيدة عن الحقيقية و سنجد العديد من النظريات المشابهة و التي تتفق كلها على نفس فكرة المخلوقات الغير بشرية التي تعيش بيننا بنفس هيئتنا
فلا يهمننا حاليا إدراك نوع فصيلة الجن أو أصلهم بقدر ما يجب كشف و إدراك طريقة تحكمهم في البشر و الوسائل التي يستخدمونها لتسييرنا حسب أهوائهم و هنا أخص بالذكر الشياطين منهم و تبقى أول خطوة في هذا الطريق هي كشف وسيلة تخفيهم عنا حتى نراهم كما يروننا