بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لا شك أن القرآن يحمل في طياته العديد من آيات القتال حقيقة سعى البعض لتسخيرها في إنشاء دين عسكري إمبريالي يخدم مصالحهم و البعض الآخر لمهاجمة الإسلام و تصويره في شكل دين إجرامي و رغم كثرة هذه الآيات فإن نصوصها قد أكدت بالملموس مشروعيتها كتشريع للدفاع عن الناس و رد عدوان الظالمين و ليس للعدوان و الإعتداء و أستطيع الجزم أن لولا سورة التوبة أو براءة كما يحلوا للبعض تسميتها لما وجود هؤلاء المفترين أي مدخل لفرض شريعتهم الإستعمارية بإسم الدين
فلو قمنا بدراسة دقيقة لجل سور القرآن التي تطرقت للقتال بشكل مفصل سنجدها بقدر ما تدعوا للقتال و الشدة بقدر ما تؤكد على أن هدفه الأساسي هو رد عدوان الظالمين لا غير سواء في سورة البقرة
وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193) سورة البقرة
أو في سورة النساء
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94) سورة النساء
أو في سورة الأنفال
وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) سورة الأنفال
أو في سورة الممتحنة
لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9) سورة الممتحنة
ألخ من السور و التي تتفق جميعها على تحريم قتال و معادات الكفار الذين لم يرفعوا سيوفهم لمحاربة دين الله و أتباعه و على ضرورة وقف القتال في حالة توقف عدوان المعتدين منهم
وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193) سورة البقرة
و لإستحالة لي عنق مثل هذه الآيات لم يجد أعداء الله و رسوله من سبيل للتحايل على النصوص سوى من خلال سورة التوبة التي نزلت لتعالج حالة إستثنائية فقاموا بتحويل الإستثناء إلى عموم و قاموا بإلغاء العموم بدعوى نسخه بحكم الإستثناء ؟ و طبعا بإدعاءهم هذا جعلوا عشرات الآيات التي تدعوا للسلم و الدعوة إلى الله بالموعظة الحسنة في مهب الريح حيث أصبحت آيات لا فائدة منها في كتاب الله و هذه هي إحدى أكبر مشاكل فهمهم الخاطئ للنسخ حيث ألغوا من نصوص القرآن أحكام العديد من الآيات بهتانا و زورا و لمزيد من التفاصيل يمكن الإطلاع على مقال
و قد وجد أصحاب المذاهب ضالتهم في الآية الخامسة من سورة التوبة بالذات التي إشتهرت بآية السيف و التي جعلوها ناسخة لكل نصوص السلم في القرآن
فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) سورة التوبة
و التي بالفعل إن قمنا بإخراجها من سياقها يبدو فيها ليس إكراه على الإسلام فقط بل حتى على إقامة الصلاة و إيتاء الزكاة حيث برر بها أبو بكر حربه على المسلمين الممتنعين عن أداء الزكاة على حد زعمه كما يتبين في التفاسير
تفسير بن كثير
{ فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن اللّه غفور رحيم} ، ولهذا اعتمد الصديق رضي اللّه عنه في قتال مانعي الزكاة على هذه الآية الكريمة، حيث حرمت قتالهم بشرط الدخول في الإسلام والقيام بأداء واجباته، ونبه بأعلاها على أدناها، فإن أشرف أركان الإسلام بعد الشهادتين الصلاة التي هي حق اللّه عزَّ وجلَّ، وبعدها أداء الزكاة التي هي نفع متعد إلى الفقراء والمحاويج، وهي اشرف الأفعال المتعلقة بالمخلوقين، ولهذا كثيراً ما يقرن اللّه بين الصلاة والزكاة، وقد جاء في الصحيحين: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا اللّه وأن محمداً رسول اللّه ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة)
و للأسف نجد العديد من رجال الدين حتى ممن ينكرون جزء من المذهب السني و فكرة الإكراه في الدين لا يزالون يتخبطون عند محاولتهم لشرح هذه الآية
لكن لو دققنا جيدا في نص الآية سنجدها لم تأمر بقتال المشركين حتى يدعي البعض أنه أمر بنشر الإسلام بالسيف بل دعت لقتلهم مما يوحي أن ذلك كان عقاب لهم و ليس محاولة لإكراههم على الإيمان
الملاحظة الثانية أن توبة المشركين و إقامتهم للصلاة و إيتائهم للزكاة جاء كمجرد إستثناء لعدم قتلهم و لم يكن هو الغاية من قتلهم فالآية لم تقل فاقتلوا المشركين حتى يقيموا الصلاة و يأتوا الزكاة بل إستعملت أداة الشرط إن للإشارة إلى حالة إستثنائية لا غير و سنجد التأكيد على ذلك في نص آيات سورة المائدة الواضحة و البينة التي فصلت لنا جميع أنواع عقاب الذين يحاربون دين الله و رسوله المتمثل في حربهم على الإسلام على حسب جرم كل فريق منهم حسب القاعدة العامة للقرآن بالرد على العدوان بمثله
الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194) سورة البقرة
و كما يلاحظ فالتوبة جاءت إستثناء لعدم تنفيذ الحكم عليهم كما جاء في الآية السالفة الذكر و بما أن القتل هنا كان هو العقاب فنستنتج أنهم قاموا بقتل المؤمنين
فبمجرد دراسة نص الآية لوحدها رغم إقتطاعها من سياقها تبين أن لا علاقة لها بالإكراه في الدين و الدعوة للإسلام بالسيف فماذا لو رجعنا للسياق كاملا ؟
من خلال تدبر الآية الأولى من سورة التوبة
بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) سورة التوبة
يتجلى أنها سورة إستثنائية نزلت بحكم إستثنائي لحالة إستثنائية و لا يمكن في أي حال من الأحوال تطبيق حكمها على العموم إلا في حالات مماثلة و لا يمكن في أي حال من الأحوال إدعاء أن هذا الحكم ناسخ و ملغي لأحكام القرآن العامة و الثابتة حيث تم حصر الخطاب في طائفة المشركين الذين كان لهم معاهدات مع المؤمنين فالآية لم تقل براءة من الله و رسوله إلى المشركين بل إلى الذين عاهدتم من المشركين ؟ بعد ذلك لا داعي لتكرار نفس الخطاب كقول فإذا إنسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا الذين عاهدتم من المشركين حيث وجدتموهم ... لأن الرسالة قد وصلت و المتدبر المحايد الذي ليست لديه نوايا للتلاعب بالنصوص قد أدرك هوية المشركين المخاطبين في بقية النصوص
هذا مع الأخذ بعين الإعتبار التضليل اللغوي للمفسرين حين تجاهلوا حقيقية أن الأسماء المعرفة بالألف و اللام لا تعني العموم في لسان القرآن بل تشير إلى هوية المخاطبين في النصوص حسب السياق كما سبق التوضيح في موضوع
لإيهام الناس أن خطاب المشركين في سورة التوبة شامل لكل مشرك في كل زمان و مكان
و قد أعطى الله تعالى لهذه الطوائف من المشركين مهلة أربعة أشهر و التي لم تكن في حقيقة الأمر سوى الأشهر الحرم التي حرم الله تعالى فيها القتال
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217) سورة البقرة
كما يتبين بوضوح في نص الآيات الموالية
فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2) وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3) سورة التوبة
فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) سورة التوبة
فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) سورة التوبة
رغم أن مفسري المذاهب حاولوا تكذيب ذلك و إدعاء أنها أشهر أخرى
تفسير بن كثير
اختلف المفسرون في المراد بالأشهر الحرم ههنا ما هي؟ فذهب ابن جرير إلى أنها المذكورة في قوله تعالى: { منها أربعة حرم ذلك الدين القيم} الآية، ولكن قال ابن جرير: آخر الأشهر الحرم في حقهم المحرم، وفيه نظر، والذي يظهر من حيث السياق ما ذهب إليه ابن عباس وهو قول مجاهد وقتادة والسدي وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهو الأرجح في رواية العوفي عنه، أن المراد بها أشهر التسيير الأربعة المنصوص عليها بقوله: { فسيحوا في الأرض أربعة أشهر}
و كيف سيدعون العكس و الآيات تفضح أشهرهم الحرم الكاذبة المتفرقة و تؤكد على أنها أربعة أشهر متتالية
و هذه البراءة في حقيقة الأمر لم تكن سوى تبرؤ من عهد و ميثاق السلم الذي كان بين المؤمنين و المشركين بدليل الأمر بإتمام العهود إلى مدتها مع المشركين الذين لم ينقصوا مدة عهدهم و لم يظاهروا على المؤمنين
إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) سورة التوبة
أي الذين لم ينكثوا العهد قبل إنتهاء مدته و لم يقاتلوا المؤمنين خلال مدة العهد مما يؤكد أن البراءة و القتل كان للمشركين الذين نكثوا العهد و قاموا بالإعتداء على المؤمنين و رغم محاولة تضليل أصحاب المذاهب و إدعاءهم أن الآية الخامسة قد نسخت الآية الرابعة و أنها عامة على جميع المشركين فأن الآية السابعة التي جاءت بعدها تكذب هذا الإدعاء و تؤكد مرة أخرى ضرورة الإستقامة للمشركين الذين لم ينكثوا عهدهم و تفصلهم بشكل واضح عن المشركين الذين لا عهد لهم
كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) سورة التوبة
و سنجد التأكيد التام في الآية الآية الثالثة عشر على بدأ هؤلاء المشركين بالحرب و العدوان و محاولتهم إخراج الرسول
أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) سورة التوبة
و هنا يجب الوقوف على مغالطة تاريخية كبيرة حيث يعتقد العديد بناء على ما جاء في سيرة أصحاب المذاهب أن هذه الآية تتحدث عن قوم الرسول الذين طردوه من قريته في الماضي
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ (13) سورة محمد
و الذي جعله أصحاب المذاهب في سيرتهم عبارة عن هجرة طوعية !
لكن هناك فرق شاسع من هم بالشيء و من حققه على أرض الواقع و خير مثال على ذلك نجده في نص سورة التوبة نفسها
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (74) سورة التوبة
و كمثال أيضا عدم وقوع الفاحشة بين يوسف و إمرأة العزيز رغم همهما ببعضهما البعض
وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) سورة يوسف
فهؤلاء المشركين في حقيقية الأمر لم ينالوا مرادهم بإخراج الرسول نهائيا بل أيده الله تعالى بنصره و جنوده و جعل كلمت الذين كفروا السفلى
(39) إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40) سورة التوبة
فمن الواضح هنا أن الكفار فشلوا في مساعيهم بعد هزيمتهم في القتال بأيد الملائكة و أن الرسول قد عاد للمسجد الحرام منتصرا و أن لا علاقة لهذا الإخراج المؤقت بإخراج الرسول من قريته بل بالأحداث السالفة الذكر من نكث المشركين لعهدهم و هجومهم على المؤمنين و محاولة إخراجهم للرسول من المسجد الحرام
طبعا كان واجبا الرد على هؤلاء المعتدين و عقابهم و هنا جاءت براءة الله و رسوله من هؤلاء المشركين لنكثهم عهد السلم و غدرهم بالرسول و المؤمنين و بما أن الله تعالى قد أعطاهم مهلة أربعة أشهر حتى إنتهاء الأشهر الحرم فنستنتج أن هجومهم هذا كان في بداية هذه الأشهر رغم تحريم القتال فيها لكي يضمنوا النصر لعدم توقع و إستعداد المؤمنين للقتال فيها و قد كانوا إستخدموا خدعة النسي لتحليلها على أنفسهم حتى يحلوا لأنفسهم القتال أثنائها
إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37) سورة التوبة
سيتسأل البعض كيف قاتل الرسول المشركين أثناءها ورغم تحريم القتال ؟ ببساطة لأن الله شرع القتال أثناءها في حالة واحدة فقط للدفاع عن النفس و منع إخراج سكان المسجد الحرام
الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194) سورة البقرة
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217) سورة البقرة
فقاتلهم الرسول حتى إسترجع المسجد الحرام منهم فكان كان لازما معاقبتهم على فعلتهم حتى يرد المظالم منهم
قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15) سورة التوبةو يقي المؤمنين شرهم مستقبلا
وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12) سورة التوبة
فغاية القتال في ناهية الأمر و في جميع نصوص القرآن هو إنتهاء الكفار عن العدوان على المؤمنين
وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193) سورة التوبة
فأمهلهم الله تعالى مدة أربع أشهر لغاية إنتهاء الأشهر الحرم لإستكمال القتال فيما دون المسجد الحرام
و قد تحريم المسجد الحرام عليهم نهائيا منذ ذلك العام
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28) سورة التوبة
و كما يتبين في الآيات الموالية فإن هؤلاء المشركين لم يكونوا في حقيقة الأمر سوى مشركي اليهود و النصارى
قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29) وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) سورة التوبة
و الذين حسب نص الآية التاسعة و العشرون فإنهم لم يكونوا يحرمون ما حرم الله و رسوله في إشارة لعدم تحريمهم للأشهر الحرم كما سبقت الإشارة في الآيات السالفة الذكر
و هنا تتجلى بوضوح أحد الحقائق التي حاول أصحاب المذاهب تزييفها أن المشركين الذين نكثوا عهودهم أثناء الأشهر الحرم و هموا بإخراج الرسول لم يكونوا في حقيقة الأمر سوى مشركي الذين أوتوا الكتاب من اليهود و النصارى و ليس المشركين الوثنين عبدة الأصنام و قد سبق التوضيح في موضوع
أن حرب المؤمنين في أغلب فترة البعثة كانت مع اليهود و النصارى فكانت الجزية عبارة عن جزاء و تعويض على نكثهم لعهدهم و إعتدائهم على المؤمنين و لهذا السبب طلب من المؤمنين قتالهم حتى يعطوها عن يد و هم صاغرون أي أدلاء و ليس كما صور أصحاب المذاهب أنها ضريبة مفروضة على كل شخص ينتمي لأهل الكتاب يعيش في بلاد المسلمين فلو كانت هذه الآية لها علاقة بالعقيدة كما يدعون لخيرت الذين أوتوا الكتاب بين الجزية و الإسلام و لقالت قاتلوهم حتى يؤمنوا أو يعطوا الجزية ؟ فمن الواضح هنا أن الجزية كانت عبارة عن عقاب و جزاء فرض على طائفة معينة لا غير
فكما يتبين عند وضع الآيات في سياقها الصحيح فإن الأحداث تصبح مترابطة و الحقيقة واضحة وضوح الشمس و أن أحكام هذه السورة لا تختلف في شيء عن الحكم العام الذي جاء في جميع نصوص القرآن
أن لا عدوان إلا على الظالمين
لكن أصحاب المذاهب تلاعبوا بنصوصها و إستخدموا كل السبل الممكنة و من بينها حل الناسخ و المنسوخ و الذي لا يوجد أصلا في نصوص القرآن الحالية كما سبقت الإشارة في موضوع
لإختراع شرائع ما أنزل الله بها من سلطان غيرت تاريخ الإسلام و طريقة دعوته و شوهت صورته إلى دين وحشي همجي لازلنا نرى وجهه القبيح إلى يومنا هذا في مختلف الجماعات الإرهابية و ما خفي أعظم دين أصبحت طريقة دعوته هي قتل كل شخص لا ينتمي للذين أوتوا الكتاب حتى يسلم و تخيير الذين أوتوا الكتاب بين الجزية أو الموت أو الإسلام و قد تجلى ذلك بوضوح في جل الدول التي إحتلها الخلفاء و الأمويين و العباسيين و العثمانيين من بعدهم حيث تم محو جميع أديانها من الوجود بإستثناء من اليهود و المسيحيين و بعض الطوائف الكتابية الذين عاشوا أدلاء مستغلين ماديا
و الغريب في الأمر أن وصف المشركين المعتدين في سورة التوبة ينطبق على مشرعي هذا الدين المزيف فكلاهما إستعمل القوة لنشر دينه و إبقاء أتباعه عليه و كلاهما تلاعب بنصوص كتبهم و كلاهما تلاعب بحرمات الله و غير توقيت الأشهر الحرم و كلاهما لا أيمان لهم كما حدث في حروب من لقبوهم بالصحابة فيما بينهم فالمشركين الذين نزلت فيهم نصوص سورة التوبة هم الذين تلاعبوا بنصوصها لاحقا و سخروها لتشريع نفس الأحكام التي نزلت للنهي عنها فلا حول و لا قوة إلا بالله
لكن تبقى نصوص القرآن شاهدة على كذبهم و بالأخص سورة التوبة الذي أكدت في أواخرها بعد عشارت الآيات من آيتي السيف و الجزية المزعومتين أن الله تعالى لم يأمر رسوله بقتال الكفار بسبب عقائدهم و تصرفاتهم
سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95) سورة التوبة
حيث كان يخشى الكفار المنافقون أن يقاتلهم الرسول و المؤمنون في حالة إكتشاف نفاقهم و كفرهم و مع أن الله تعالى ذكر في الآية أنهم رجس فقد أمر رسوله بالإعراض عنهم و عدم قتالهم
ليباركك الرب
ردحذف