و قد ظهرت مؤخرا بعض التفاسير التي أعطت معنى حديث للأميين كربطه بالأمويين أو سكان أم القرى أي سكان البيت الحرام ألخ قابله إصرار شديد على التشبث بالفكرة التقليدية للزيادة من إعجاز الرسالة المحمدية بإدعاء أنه نزل على رجل لا يعلم الكتابة و القراءة
رغم أن الحقيقية القرآنية أبسط من ذلك بكثير و أوضح من وضح الشمس
أول ملاحظة أن وصف الأميين لا علاقة له بالقومية و لا بالعرق و يتجلى ذلك بوضوح في هذا النص
وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78) سورة البقرة
الذي وصف جهل بعض طوائف بني إسرائيل بكتبها السماوية بالأمية و التي لا تعني بالضرورة جهلهم بالكتابة و القراءة كما جاء في تفاسير سلف المذاهب الترقيعية
تفسير بن كثير
و لنكتشف في النص الموالي أن نفس هؤلاء هم من كانوا يكتبون الكتاب بأيديهم و يقولون للناس أنه من عند الله
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79) سورة البقرة
فكيف يريدون إقناعنا إذا أن الأميين هم الذين لا يجيدون القراءة و الكتابة ؟
فهل بالفعل يعود وصف الرسول و قومه بالأميين لجهلهم بالقراءة و الكتابة ؟
لماذا طالبوا إذا بكتاب يقرأونه ؟
أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93) سورة الإسراءلماذا أمر الرسول بالقراءة ؟
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) سورة العلق
ما محل هذا النص من الإعراب ؟
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282) سورة البقرة
فبالإضافة لإشارته لتداول الكتابة في البيئة التي بعث فيها الرسول محمد فقد بين في نفس الوقت المصطلح الحقيقي الذي كان يوصف به من لا يستطيع الكتابة و القراءة في لسان قوم النبي آنذاك و الذي وصف بالسفيه و لو عدنا لمختلف الآيات سنجد أن المعنى العام للسفاهة هو الجهل
وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (5) وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (6) سورة النساء
حيث أشارت هاتين الفقرتين إلا أن السفاهة هي عكس الرشد و أمرت القائمين على اليتامى بعدم إعطاء الأموال للسفهاء أي الجهلاء حتى يبلغوا الرشد
وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155) سورة الأعراف
هنا أيضا وصف موسى الظالمين من قومه بالسفهاء أي الجهلاء بعد عبادتهم للعجل نفس ما وصفهم به عندما طالبوه بأن يجعل لهم صنما يعبدونه
وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) سورة الأعراف
نفس الملاحظة في الفقرتين التاليتين
سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) سورة البقرة
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13) سورة البقرة
قد يعتقد البعض أن وصف السفهاء في الآية الأخيرة كان موجه من المنافقين من أهل الكتاب إلى قوم الرسول كونهم لا يعلمون القراءة و الكتابة لكن الحقيقية أن هذا الوصف يقتصر على الجهل بالكتب السماوية فقط فقد كانوا يعتبرون كل من لم يؤتى الكتاب مثلهم جهلاء و أقل منهم شأنا
وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) سورة آل عمران
فهذه الآية تجلي بوضوح المعنى الحقيقي للأمية الذي يشير إلى كل من لم يؤتى علم الكتب السماوية
وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) سورة سبأ
إشارة واضحة لعدم إتيان الله قوم الرسول بكتاب سماوية و عدم بعث نذير فيهم ولكن هذا لا يعني أنهم كانوا لا يكتبون و لا يقرأون
نفس الملاحظة في هذه الفقرة
وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) سورة العنكبوت
التي لا تعني بالضرورة أن النبي محمد لم يكن يقرأ و يكتب و صراحة لا يوجد ما يثير الريبة في قدرته على القراءة و الكتابة بل المريب فعلا هو لو كان الرسول يقرأ و يخط كتب الذين أوتوا الكتاب من قبله و و يتلوها على قومه قبل نزول القرآن حينها فقط كان سيتهمه المبطلون بأنه نقل علم الكتاب عنهم كما يزعم حاليا العديد من أشباه المؤرخين بأنه كان نصرانيا أبيونيا على مذهب ورقة بن نوفل مطلعا على التوراة و الإنجيل و أنه نقل منهما جل الأحكام و القصص القرآنية
فهذه الآية بقدر ما تبين أن جهل الرسول كان منحصرا على الكتب السماوية فقط بقدر ما تبين أنه كان يقرأ و إلا فكيف سيتلوا الكتاب ؟ فعبارة الكتاب هي وصف لنصوص مكتوبة و هناك العديد من النصوص التي تؤكد كتابة القرآن في عهد الرسول على خلاف ما حاول التراث المذهبي إيهامنا
وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) سورة الطور
كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) سورة عبس
مثلما تبين لنا أن الرسول كان يخط الكتاب بيمينه و هذا ما يتبين أيضا من خلال إتهام قومه له أنه كان يكتتب أساطير الأولين
وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) سورة الفرقان
و هذا الإتهام إن دل على شيء فإنه يدل على أن الرسول هو من كان يكتب القرآن و يتلوه علي قومه حقيقية سعت المذاهب لطمسها لتمجيد و نسب كتابة القرآن و جمعه لمن أسموهم بالصحابة
فخلاصة القول أن مفهوم الأمية الحقيقي هو الجهل بالكتب السماوية و أن لقب الأميين هو لقب أطلق على الأمم التي لم تأتى كتبا سماوية في الماضي مثل قوم الرسول
هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) سورة الجمعة
فلا وجود لطرف ثالث في الدعوة المحمدية هناك الشعوب التي أوتيت الكتاب و الشعوب التي لم تؤتاه و التي وصفت بالأميين
فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20) سورة آل عمران
فلا وجود لشعوب غير كتابية و في نفس الوقت غير أمية بالمفهوم السلفي
تعليقات
إرسال تعليق